بقلم : د. صلاح عبد الرزاق
مقدمة:
يتميز العراق بكونه بلداً متعدد الإثنيات والأديان والمذاهب، تعيش جنباً إلى جنب، وفي بعض المناطق متداخلة مع بعضها البعض. ورغم ضعف الرابطة الاجتماعية والوطنية التي تجمع كل هذه المكونات لكنها استطاعت أن تتجاوز المحن والأزمات، وأن تبرز الجانب الإيجابي في المواطنة التي تفتقد امتيازاتها أغلب هذه المكونات. إن حبها لوطنها واعتزازها بتاريخها وانتمائها لهذا الوطن هو الذي جعلها تصبر على الجراح والآلام وعلى التمييز السياسي والطائفي والعرقي الذي ساد النظام السياسي للدولة الحديثة منذ إنشائها عام 1921 وحتى سقوط نظام صدام.
إن أهم ملامح النظام السياسي للدولة الحديثة هو ترسيخ حالة الهيمنة لأقلية طائفية معينة وحرمان الأكثرية وكذلك الأقليات العرقية والدينية الأخرى، إلا ما ندر من استثناءات.
في هذه الدراسة سنتناول وضع هذه المكونات ودورها في تاريخ العراق المعاصر.

- وضع الشيعة في العهد العثماني :
عندما أكمل الانجليز احتلال العراق عام 1917 كانت نسبة السكان الشيعة تقارب 90% حسب تقرير الإدارة المدنية الذي أعدته المسز بيل (1)لقد عانت الأكثرية الشيعية في العراق من التمييز الطائفي الذي مارسته الدولة العثمانية التي تبنت المذهب الحنفي مذهبا رسميا للدولة والقضاء والأوقاف والمدارس الدينية ودواوين الحكومة. إذ رفضت الدولة العثمانية الاعتراف رسمياً بالمذهب الشيعي أسوة ببقية المذاهب الإسلامية. كما رفضت معاملة الشيعة بنفس الطريقة التي تتعامل فيها مع بقية المذاهب الأخرى كالنصيرية والدروز، أو غير المسلمين كالمسيحيين واليهود الذين تمتعوا بامتيازات ضمنها لهم نظام الملل. (2)

ويشير التقرير البريطاني إلى أن الأتراك لم يعيروا أي اهتمام بالعراقيين الشيعة لأن “العنصر التركي كان يحظى بدعم الحكومة التركية ، ويتمتع بمنزلة اجتماعية لا تتناسب مع نسبته السكانية”. (3) وكان مشايخ الدولة العثمانية لا يترددون في إصدار فتاوى تبيح قتل الشيعة ، حيث أصدر مفتي اسطنبول فتاوى في الأعوام 1725 و1743 . وبقيت العلاقة متوترة بين العشائر الشيعية العراقية وبين الإدارة العثمانية في العراق. إذ شهدت عدة ثورات وانتفاضات في القرن التاسع عشر وقبله. (4) يؤيد تلك الحالة سياسي سني شهير، كامل الجادرجي ، بقوله (في العهد العثماني ، كانت الدولة العثمانية تنظر نظرة خاصة إلى الطوائف التي تعتبرها أقليات، ومن تلك الطوائف التي اعتبرت أقلية داخل الدولة العثمانية ، طائفة الشيعة). (وكان من سياسة الدولة العثمانية تحريم إسناد المناصب الحكومية لأفراد طائفة الشيعة على الأغلب ولاسيما بالنسبة للمناصب الخطيرة. كما كان من سياسة تلك الدولة الحيلولة دون وصول الشيعة إلى سلك ضباط الجيش. وكانت الدولة في الوقت نفسه تعرقل قبول الشيعة في المدارس الحكومية). (إن وضع الشيعة لم يطرأ عليه تبدل جوهري حتى زوال الحكم العثماني في الحرب العالمية الأولى). (5)

ويؤكد حنا بطاطو تهميش الشيعة في الدولة العثمانية عندما يشير إلى وجود هرميات للتراتب الاجتماعي وهي هرمية الثروة و(هرميات الدين حيث كان المسلمون فوق المسيحيين واليهود الصابئة، وهرميات الطائفة حيث السنة فوق الشيعة، وهرميات المجموعات الإثنية حيث المماليك (الكرج) والأتراك فوق العرب الأكراد). (6)
لقد اتسعت وتنوعت مظاهر التمييز الطائفي ضد الشيعة، حيث منع القانون العثماني زواج التبعة العثمانية من التبعة الإيرانية. ويعاقب المأذون الذي يعقد النكاح مخالفاً هذا القانون. (7) ومنعت الطلاب الشيعة من دخول المدارس الرسمية سواء العسكرية أو المدنية. تقول المسز بيل (لم يكن يُعترف بلياقة غير السني للتعليم فيها. وكان وجود هذه القاعدة بين سكان أكثريتهم من الشيعة لا يشجع الإقبال عليها) (8)كما أن اعتماد المدارس في مناهجها على المذهب السني جعل الشيعة يحجمون من إرسال أبنائهم إليها (9) الأمر الذي أدى إلى قيام الشيعة بفتح مدارس خاصة بهم وعلى نفقتهم. كما تم استبعاد الشيعة من البعثات الرسمية ذات الاختصاصات العلمية المتنوعة. (10)
لقد أجبرت الدولة العثمانية الشيعة على مراجعة المحاكم الشرعية التي يرأسها قضاة سنة، ويحكمون وفق أحكام المذهب السني. ولم تعترف الدولة بالقضاة الشيعة. (11) ووصل الأمر إلى تعيين قاض سني في مدينة النجف الأشرف التي تعج بالعلماء والفقهاء ومراجع التقليد. وكانت المناصب الدينية الأخرى مكرسة للسنة مثل رئيس علماء بغداد ومفتي الجزيرة وغيرها. وسعت الدولة العثمانية إلى إغلاق المدارس الدينية الشيعية في النجف وكربلاء والكاظمية وسامراء. كما أنها اخفقت في إنهاء دور المحاكم الشرعية الشيعية ونقل قضاياها إلى المحاكم الرسمية. وكان الشيعة يرفعون قضاياهم إلى المجتهدين ووكلاء المراجع.

بقيت الدولة العثمانية تمسك بجميع الأوقاف الإسلامية، السنية والشيعية. ولم تعترف بأهلية المؤسسات الشيعية في الإشراف على الأوقاف، وحتى الأراضي الموقوفة على العتبات المقدسة. (12) وكانت الدولة العثمانية تصادر أوقاف الشيعة ، فعندما دخل السلطان مراد الرابع بغداد عام 1635 أراد تعمير ضريح الشيخ عبد القادر الكيلاني فقام بتخصيص أوقاف كثيرة معظمها من أملاك الشيعة. (13) وكانت دائرة الأوقاف تجمع واردات الأراضي الزراعية وبدلات الإيجار، وتوزع قسم منها رواتب للعاملين في المساجد السنية من الأئمة والمؤذنين والخدم والحرس، وقسم آخر في صيانة المساجد السنية وبناء مساجد سنية جديدة. وما تبقى من إيرادات ترسله إلى وزارة الأوقاف في اسطنبول. وتهمل إعمار الأراضي الزراعية وترميم البيوت والخانات والدكاكين والمدارس الموقوفة. (14) وحرمت الأوقاف الشيعية من تلك الامتيازات. كما كان الولاة العثمانيون يمنعون تطبيق الشعائر الحسينية في العراق. وظل ممارسة هذه الشعائر محظوراً حتى تولى علي رضا الولاية (1831-1842) فسمح بها. ( 15) والتزمت الدولة العثمانية بسياسة منع الشيعة من التعيين في الوظائف الحكومية. (16) إذ كانت جميع الوظائف الحكومية تمنح للسنة سواء الأعمال الإدارية البسيطة أو المناصب العليا. كما كان موظفو الإدارة في المدن الشيعية من السنة، حيث لم تستعن بموظفين محليين إلا نادراً.

في عام 1894 عندما أرسى السلطان عبد الحميد قواعد استغلال الاقطاعيات الكبرى اعترفت الدولة بخمس أسر فقط من الأشراف، كلها من السنة (هي عائلات جميل والكيلاني والألوسي والحيدري والسنوي). (17) وقد تم تمليكهم تلك الأراضي الشاسعة بسندات تمليك (طابو) . وفي الجنوب والفرات الأوسط لم يحصل على تلك المنحة سوى عشيرة (السعدون) السنية في المنتفك. أما بقية شيوخ العشائر فقد بقيت الأراضي التي حصلوا عليها ذات صفة أميرية مؤقتة، خاضعة لمزاج الدولة وموقفها حيث تخضع لإعادة التوزيع. وغالباً ما أعطيت لغرباء عنها. (18)

وأما تمثيل العراقيين في مجلس النواب أو (مجلس المبعوثان) الذي يفترض فيه تمثيل سكان المناطق من أنحاء الدولة العثمانية وأقاليمها، فقد تم استبعاد الشيعة عن تمثيل المناطق الشيعية. ففي الدورات 1876 و 1908 و1912 كان مجموع النواب العراقيين لكل هذه الدورات يبلغ (37) عضوا ، غالبيتهم من السنة واليهود. والمرة الوحيدة التي سمحت فيها السلطات العثمانية أن ينتخب من الشيعة عضواً واحداً في مجلس المبعوثان كان عام 1908 وهو عبد المهدي الحافظ.( 19)
وأما التزوير فهو من الأمور الشائعة التي مارستها السلطات العثمانية عندما كانت تحرم السكان الشيعة من حق ترشيح من يريدونه ، وتقوم الحكومة بتعيين مرشحين سنة عن المدن الشيعية. (20)
إن تسليط الضوء على وضع الشيعة في العهد العثماني لا يعني تأكيد مظلوميتهم فحسب، بقدر ما سيفيدنا في متابعة جذور النظام السياسي القادم الذي تأسس على أنقاض الإدارة العثمانية في العراق.
الهوامش: 1- 1- Bell, (1920), Review of Civil Administration of Mesopotamia, p. 15, and Bell, The Arab War, p. 112- (صلاح عبد الرزاق (المرجعية والاحتلال الأجنبي) / ص 44 )3- ( Bell, (1920), Review of Civil Administration of Mesopotamia, p. 27)4- (حسن العلوي (الشيعة والدولة القومية) / ص 57)5- (عبد الكريم الأزري (مشكلة الحكم في العراق) / ص 127. 6- (حنا بطاطو (العراق: الطبقات الإجتماعية والحركات الثورية) / ج 1 / ص 27)7- (عدنان عليان (الشيعة والدولة العراقية الحديثة) / ص 248).8- (Bell, (1920), Review of Civil Administration of Mesopotamia, p. 11 9- P.W. Ireland (1937), IRAQ, A Study in Political Development, p. 12510- عدنان عليان (الشيعة والدولة العراقية الحديثة) / ص 251) 11- P.W. Ireland (1937), IRAQ, A Study in Political Development, p. 130 12- ( Bell, (1920), Review of Civil Administration of Mesopotamia, p. 9213- حسن العلوي (الشيعة والدولة القومية) / ص 55)14- Bell, (1920), Review of Civil Administration of Mesopotamia, p. 1015- فرهاد إبراهيم (الطائفية والسياسة في العالم العربي) / ص 52 )16- George Harris (1957), IRAQ, Its people, its society, its culture, p. 9617- حنا بطاطو (العراق: الطبقات الاجتماعية) / ج 1 / ص 184 )18- عدنان عليان (الشيعة والدولة العراقية الحديثة) / ص 259)19- عدنان عليان (الشيعة والدولة العراقية الحديثة) / ص 265)20- حسن العلوي (الشيعة والدولة القومية ) / ص 59-60)